فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{لإيلاف قُرَيْشٍ}
متعلق بقوله تعالى فليعبدُوا، والفاءُ لما في الكلامِ منْ مَعْنى الشَّرطِ إذِ المعَنْى أنَّ نِعمَ الله تعالى عليهمْ غيرُ محصورةٍ فإنْ لَمْ يعبدُوه لسائرِ نعمهِ فليعبدُوه لهذِه النعمةِ الجليلةِ وقيلَ بمضمرةٍ تقديرُهُ فعلنَا مَا فعلنَا منْ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ لإيلافِ إلخ وقيلَ: تقديرُهُ أعْجَبُوا لإيلافِ إلخ وقيلَ: بمَا قَبْلَهُ منْ قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} ويؤيدُهُ أنهُمَا في مُصْحفِ أُبَيَ سورةٌ واحدة بلاَ فصلٍ، وَالمَعْنى أهلكَ مَنْ قصدَهُم منَ الحبشةِ ليتسامعَ النَّاسُ بذلكَ فيتهيبُوا لَهُمْ زيادةَ تهيبٍ ويحترمُوهم فضلَ احترامٍ حَتَّى ينتظَم لهُمْ الأمنُ في رحلتيِهمْ فَلاَ يجترئُ عليهمْ أحد وكانتْ لقريشٍ رحلتانِ يرحلونَ في الشتاءِ إلى اليمنِ وفي الصيفِ إِلى الشامِ فيمتارونَ ويتجرونَ وكانُوا في رحلتيِهمْ آمنينَ لأنَّهُم أهلُ حرمِ الله تعالى وولاةُ بيتِه العزيزِ فَلاَ يُتَعرضُ لهُمْ والنَّاسُ بينَ مُتخطَّفٍ ومنهوبٍ. وَالإيلافُ منْ قولكَ آلفتْ المكانَ إيلافًا إذا أَلفْتَهُ وقرئ لإلافِ قُريشٍ أيْ لمؤالفتِهمْ، وقيلَ: يقال ألفتُهُ إلفًا وإلافًا وقرئ لإلفِ قريشٍ، وقريشٌ ولد النَّضْرِ بنِ كنَانَةَ سُمُّوا بتصغيرِ القِرشِ وهُوَ دابةٌ عظيمةٌ في البحرِ تعبثُ بالسفنِ وَلاَ تُطَاقُ إِلاَّ بالنارِ، والتصغيرُ للتعظيمِ وقيلَ: منَ القَرْشِ وهُوَ الكسبُ لأنهمْ كانُوا كسَّابينَ بتجاراتِهمْ وضربِهمْ في البلادِ. وقوله تعالى: {إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} بدلٌ منَ الأولِ، ورحلةَ مفعولٌ لإيلافِهم وإفرادُهَا معَ أنَّ المرادَ رِحْلَتي الشتاءِ والصيفِ لأمنِ الإلباسِ، وَفي إطلاقِ الإيلافِ عنِ المفعولِ أولًا وإبدالُ هَذا منْهُ تفخيمٌ لأمرهِ وتذكيرُ لعظيمِ النعمةِ فيهِ. وقرئ ليألفَ قريشٌ إلَفهُمْ رحلةَ الشتاءِ والصيفِ، وقرئ رُحلةَ بالضمِّ وهيَ الجهةُ التي يُرحلُ إليَها {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم} بسببِ تينكِ الرحلتينِ اللتينِ تمكُنوا فيهَما بواسطةِ كونِهم منْ جيرانِهِ {مِن جُوعٍ} شديدٍ كانُوا فيهِ قَبْلَهُما، وقيلَ: أريدَ بهِ القحطُ الذي أكلُوا فيهِ الجيفَ والعظامَ {وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} عظيمٍ لاَ يُقَادرُ قدرُهُ وهُوَ خوفُ أصحابِ الفيلِ أوْ خوفُ التخطفِ في بلدِهم وَفي مسايرِهِم وقيلَ: خوفُ الجُذَامِ فلاَ يصيبُهمْ في بلدِهِم. اهـ.

.قال الجاوي:

سورة قريش:
مكية.
أربع آيات.
سبع عشرة كلمة.
ثلاثة وسبعون حرفا.
{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)} واللام إما متعلقة بالسورة التي قبل هذه السورة، وإما متعلقة بالآية التي بعد هذه اللام، وإما متعلقة بمحذوف فعلى الأول، فإن التقدير فجعلهم كعصف مأكول لحب قريش إلخ أي أهلك اللّه أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.
روي أن عمر رضي اللّه عنه قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر، ولإيلاف قريش معا من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وإن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة، وعلى الثاني فالتقدير فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلاف قريش ونفعهم أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة، وعلى الثالث فإن هذه اللام لام التعجب فكأن المعنى: أعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وانغماسا في عبادة الأوثان، واللّه تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم اللّه وكرمه. {إِيلافِهِمْ} بدل من {إيلاف} الأول لأن المبدل منه مطلق والبدل مقيد بالمفعول به، أو توكيد لفظي ف {رحلة} مفعول لإيلاف الأول.
وقرأ ابن عامر {لإلاف} قريش بغير ياء بعد الهمزة، والباقون بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني أي لمؤالفتهم.
قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطا، فهذا أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط.
وقرأ أبو جعفر {لإلف قريش إلفهم} بكسر الهمزة وسكون اللام بزنة حمل وعن ابن عامر {الافهم} بزنة كتابهم كما روي عن ابن كثير أيضا وروي عن ابن عامر أيضا، كما روي عن عكرمة {ليلاف} قريش بياء ساكنة بعد اللام.
وقرأ عكرمة {ليألف} قريش فعلا مضارعا وعنه أيضا {ليألف} على الأمر {رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ} (2) أي انتقالهما أي كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ وبالصيف إلى الشام فكانت أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون هؤلاء جيران بيت اللّه، وسكان حرمه، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل اللّه، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك اللّه أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} {رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ} هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى: {فَعَلَ رَبُّكَ} أو من قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} [الفيل: 5] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} [القدر: 1] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي اللّه عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة، وقيل: إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
وقرئ {رحلة} بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها.
{فلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ} (3) قال الخليل وسيبويه: إن اللام في {لإيلاف} متعلقة بقوله: (فلْيَعْبُدُوا) ودخول الفاء فيه لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم اللّه عليهم لا تحصى، فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة وهي إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف والمعنى لجعلهم محبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم فليعبدوه تعالى {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر بواسطة كونهم جيران البيت {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} أي من خوف دخول العدو عليهم، ومن خوف زحمة أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم.
وقال الضحاك والربيع: أي آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدتهم جذام، وقيل: آمنهم من خوف الضلال بالإسلام، فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به فكانت نعمة الأمانة دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا أما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح. اهـ.

.قال الألوسي:

{لإيلاف قُرَيْشٍ}
الإيلاف على ما قال الخفاجي مصدر ألفت الشيء وآلفته من الألف وهو كما قال الراغب اجتماع مع التئام.
وقال الهروي في الغريبين الإيلاف عهود بينهم وبين الملوك فكان هاشم يؤلف ملك الشام والمطلب كسرى وعبد شمس ونوفل يؤالفان ملك مصر والحبشة قال ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح وفعله آلف على وزن فاعل ومصدره آلاف بغير ياء بزنة قبال أو ألف الثلاثي ككتب كتابًا ويكون الفعل منه أيضًا على وزن أفعل مثل آمن ومصدره إيلاف كإيمان وحمل الإيلاف على العهود خلاف ما عليه الجمهور كما لا يخفى على المتتبع وفي (البحر) إيلاف مصدر آلف رباعيًا وآلاف مصدر ألف ثلاثيًا يقال ألف الرجل الأمر ألفًا وآلافًا وآلف غيره إياه وقد يأتي آلف متعديًا لواحد كآلف ومنه قوله:
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ** شعاع الضحى في جيدها يتوضح

وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في ذلك من القراءات.
وقريش ولد النضر بن كنانة وهو أصح الأقوال وأثبتها عند القرطبي قيل وعليه الفقهاء لظاهر ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من قريش فقال: «من ولد النضر وقيل ولد فهر بن مالك بن النضر».
وحكي ذلك عن الأكثرين بل قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشًا إنما تفرقت عن فهر واسمه عند غير واحد قريش وفهر لقبه ويكنى بأبي غالب وقيل ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف.
وفي بعض السير أنه لا عقب للنضر بن كنانة إلا مالك.
وأضعف من ذلك بل هو قول رافضي يريد بن نفي حقية خلافة الشيخين أنهم ولد قصي بن حكيم.
وقيل عروة المشهور بلقبه كلاب لكثرة صيده أو لمكالبته أي مواثبته في الحرب للأعداء نعم قصي جمع قريشًا في الحرم حتى اتخذوه مسكنًا بعد أن كانوا متفرقين في غيره وهذا الذي عناه الشاعر بقوله:
أبونا قصي كان يدعي مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر

فلا يدل على ما زعمه أصلًا وهو في الأصل تصغير قرش بفتح القاف اسم لدابة في (البحر) أقوى دوابه تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعالى وبذلك أجاب ابن عباس معاوية لما سأله لم سميت قريش قريشًا وتلك الدابة تسمى قرشًا كما هو المذكور في كلام الحبر وتسمى قريشًا وعليه قول تبع كما حكاه عنه أبو الوليد الأزرقي وأنشده أيضًا الحبر لمعاوية إلا أنه نسبه للجمحي:
وقريش هي التي تسكن البح ** ر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تت ** رك يومًا لذي جناحين ريشًا

هكذا في البلاد حي قريش ** يأكلون البلاد أكلًا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي ** يكثر القتل فيهم والخموشا

وقال الفراء هو من التقرش بمعنى التكسب سموا بذلك لتجارتهم وقيل من التقريش وهو التفتيش ومنه قول الحرث بن حلزة:
أيها الشامت المقرش عنا ** عند عمرو فهل لنا إبقاء

سموا بذلك لأن أباهم كان يفتش عن أرباب الحوائج ليقضي حوائجهم وكذا كانوا هم يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها وقيل من التقرش وهو التجمع ومنه قوله:
اخوة قرشوا الذنوب علينا ** في حديث من دهرهم وقديم

سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق والتصغير إذا كان من المزيد تصغير ترخيم وإذا كان من ثلاثي مجرد فهو على أصله وأيًا ما كان فهو للتعظيم مثله في قوله:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ** دويهية تصفر منها الأنامل

والنسبة إليه قرشي وقريشي كما في (القاموس) وأجمعوا على صرفه هنا راعوا فيه معنى الحي ويجوز منع صرفه ملحوظًا فيه معنى القبيلة للعلمية والتأنيث وعليه قوله:
وكفى قريش المعضلات وسادها

وعن سيبويه أنه قال في نحو معد وقريش وثقيف هذه الأحياء أكثر وإن جعلت أسماء للقبائل فجائز حسن.
واللام في {لإيلاف} للتعليل والجار والمجرور متعلق عند الخليل بقوله: {فليعبدوا} والفاء لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى أن نعم الله تعالى غير محصورة فإن لم يعبدوا لسائر نعمه سبحانه فليعبدوا لهذه النعمة الجليلة ولما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها.
وقوله تعالى: {إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} بدل من {إيلاف قريش} [قريش: 1] و{رحلة} مفعول به {لإيلافهم} على تقدير أن يكون من الألفة أما إذا كان من المؤالفة بمعنى المعاهدة فهو منصوب على نزع الخافض أي معاهدتهم على أو لأجل رحلة إلخ وإطلاق {لإيلاف} ثم أبدل المقيد منه للتفخيم.
وروي عن الأخفش أن الجار متعلق بمضمر أي فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش.
وقال الكسائي والفراء كذلك إلا أنهما قدرا الفعل بدلالة السياق اعجبوا كأنه قيل أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأمن عقبه وقرن بالفاء التفريعية.
وعن الأخفش أيضًا أنه متعلق بـ: {جعلهم كعصف} [الفيل: 5] في السورة قبله والقرآن كله كالسورة الواحدة فلا يضر الفصل بالبسملة خلافًا لجمع والمعنى أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ما كانوا عليه من إيلافهم رحلة الشتاء والصيف أو أهلك عز وجل من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد فيتم لهم الأمن في رحلتهم ولا ينافي هذا كون إهلاكهم لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين فإن كلًا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد.
وقال غير واحد أن اللام للعاقبة.
وكان لقريش رحلتان رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام كما روي عن ابن عباس وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب.
وعن ابن عباس أيضًا أنهم كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل يرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم.
وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لا من اللبس وظهور المعنى ونظيره قوله:
حمامة بطن لواديين ترنمي ** كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص حيث لم يقل بطونكم بالجمع لذلك.
وقول سيبويه: إن ذلك لا يجوز إلا في الضرورة فيه نظر.
وقال النقاش كانت لهم أربع رحل.
وتعقبه ابن عطية بأنه قول مردود.
وفي (البحر) لا ينبغي أن يرد فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم بنو عبد مناف هاشم كان يؤالف ملك الشام أخذ منه خيلًا فأمن به في تجارته إلى الشام وعبد شمس يؤالف إلى الحبشة والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم.
قال الأزهري الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة فإن كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الأربعة فيها فيكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد وللأكثر وفي هؤلاء الإخوة يقول الشاعر:
يا أيها الرجل المحول رحله ** هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون لرحلة الإيلاف ** والرائشون وليس يوجد رائش

والقائلون هلم للأضياف ** والخالطون غنيهم بفقيرهم

حتى يصير فقيرهم كالكافي

انتهى.
وفيه مخالفة لما نقلناه سابقًا عن الهروي.
ثم إن إرادة ما ذكر من الرحل الأربع غير ظاهرة كما لا يخفى.
وقرأ ابن عامر {لالاف قريش} بلا ياء ووجه ذلك ما مر.
ولم تختلف السبعة في قراءة إيلافهم بالياء كما اختلف في قراءة الأول ومع هذا رسم الأول في المصاحف العثمانية بالياء ورسم الثاني بغير ياء كما قاله السمين وجعل ذلك أحد الأدلة على أن القراء يتقيدون بالرواية سماعًا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك أنها رسمت في الأول على الأصل وتركت في الثاني اكتفاءً بالأول وهو كما ترى فتدبر.
وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وإن كان الأصل وكأنهم إنما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين.
وروى محمد بن داود النقار عن عاصم {ائيلافهم} بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبعت والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وأنه قرأ كالجماعة.
وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري {لألف قريش}.
وقرأ فيما حكى ابن عطية {الفهم} وحكيت عن عكرمة وابن كثير وأنشدوا:
زعمتم أن إخوتكم قريش ** لهم إلف وليس لكم إلاف

وعن أبي جعفر أيضًا وابن عامر {إلافهم} على وزن فعال.
وعن أبي جعفر أيضًا {ليلاف} بياء ساكنة بعد اللام ووجه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفًا على غير قياس.
وعن عكرمة {ليألف قريش} على صيغة المضارع المنصوب بأن مضمرة بعد اللام ورفع {قريش} على الفاعلية.
وعنه أيضًا {لتالف} على الأمر.
وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام الأمر.
والظاهر أن {إيلافهم} على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له.
وقرأ أبو السمال {رحلة} بضم الراء وهي حينئذٍ بمعنى الجهة التي يرحل إليها وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر.
{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} هو الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل.
وعن عمر أنه صلى بالناس بمكة عند الكعبة فلما قرأ {فليعبدوا رب هذا البيت} جعل يومي بإصبعه إليها وهو في الصلاة بين يدي الله تعالى: {الذى أَطْعَمَهُم} بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانه {مِن جُوعٍ} شديد كانوا فيه قبلهما.
وقيل أريد به القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام {الذى أَطْعَمَهُم مّن} عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم أو خوف الجذام كما أخرج ذلك ابن جرير وغيره عن ابن عباس فلا يصيبهم في بلدهم فضلًا منه تعالى كالطاعون.
وعنه أيضًا أنه قال أطعمهم من جوع بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {وارزقهم من الثمرات} [إبراهيم: 37] وآمنهم من خوف حيث قال إبراهيم عليه السلام {رب اجعل هذا البلد آمنًا} [إبراهيم: 35].
و{من} قيل تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم ويقدر المضاف لتظهر صحة التعليل أو يقال الجوع علة باعثة ولا تقدير وقيل بدلية مثلها في قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [التوبة: 38].
وحكى الكرماني في غرائب التفسير أنه قيل في قوله تعالى: {الذى أَطْعَمَهُم مّن} أن الخلافة لا تكون إلا فيهم وهذا من البطلان بمكان كما لا يخفى.
وقرأ المسيبي عن نافع {من خوف} بإخفاء النون في الخاء وحكى ذلك عن سيبويه وكذا إخفاؤها مع العين نحو من على مثلًا والله تعالى أعلم. اهـ.